دراسات نقدية


النص الأدبي وإشكال الفصاحة والبلاغة

أبو هلال العسكري يحاول بداية عرض المعاني اللغوية للاصطلاحين، فبعد التفريع في مجالات إطلاق البلاغة ومعانيها يحصر دلالتها في الكلام باعتبار أنها سميت بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه. ثم يخلص إلى الفصاحة التي يتمحور معناها حول تعبير المتكلم عما في نفسه وإظهاره، لينتهي أخيراً إلى تقرير هذه الخلاصة وهي أن "الفصاحة والبلاغة ترجعان إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما: لأن كل واحد منهما إنما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له"(58).
ثم يعرض أقوالاً لبعض العلماء منها أن "الفصاحة تمام آلة البيان، فلهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى فصيحاً، لأن الفصاحة تتضمن معنى الآلة ولا يجوز على الله تعالى الوصف بالآلة، ويوصف كلامه بالفصاحة لما يتضمن من تمام البيان. والدليل على ذلك أن الألثغ والتمتام لا يسميان فصيحين لنقصان آلتيهما عن إقامة الحروف، وقيل: زياد الأعجم لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف، وكان يعبّر عن الحمار بالهمار، فهو أعجم وشعره فصيح لتمام بيانه، فعلى هذا تكون الفصاحة والبلاغة مختلفتين، وذلك أن الفصاحة تمام آلة البيان فهي تتعلق باللفظ، لأن الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب فكأنها مقصورة على المعنى"(59).
ويقول مواصلاً سرد الآراء: "فإذا قلت: فصح رجل، أفاد ذلك أنه صار إلى حال يقيم فيها الحروف ويوفيها حقها. وإذا قلت: بلغ، أفاد ذلك أنه صار إلى حال يؤدي فيها المعاني حق تأديتها في صورة مقبولة، ثم صار الفصيح والبليغ صفتين لمن جاد لفظة وبان معناه"(61) فإذا كان الوصف بالفصاحة يتعلق بتمام آلة البيان، فإن البلاغة تستحيل تأدية للمعنى في صورة مقبولة. ولا شك أن اصطلاح الصورة المقبولة يوسع من دائرة اختصاص البلاغة بالمعنى فقط لتشتمل المعنى والمعرض الحسن الذي يبرز فيه. فإذا دققنا في آخر النص نجد إحساساً بالتطور في ضبط العسكري دلالة الاصطلاحين، إذ إن الصيرورة أدت إلى أن يتضام الوصفان لتحديد جودة اللفظ ووضوح المعنى، وجودة اللفظ أمر يتعلق بالنص غالباً، فإذا ضممنا هذا الوصف إلى اشتراط الصورة المقبولة في وصف الكلام بالبلاغة، أصبح بالإمكان الاستنتاج أن البلاغة تشمل مرةً المعنى وصورته، وتختص مرةً بالمعنى ليكون اللفظ قسيم الفصاحة. ويتأكد ذلك في رأيه التالي الذي ينم عن اجتهاد في تحديد معاني المصطلحين، يقول: "وقد يجوز مع هذا أن يسمّى الكلام الواحد فصيحاً بليغاً إذا كان واضح المعنى، سهل اللفظ، جيد السبك، غير مستكره فج، ولا متكلف وخم"(62). فبالإضافة إلى أن الأوصاف المتعلقة بسهولة اللفظ وجودة السبك تتحقق في النص المكتوب، يتأكد المنظور الثنائي المؤسس على تقابل البلاغة بالمعنى والفصاحة باللفظ، إلا أن وصول العسكري في العرض إلى هذا الحد جعل إمكان الامتداد باصطلاح البلاغة ليشمل عنصري المعنى واللفظ واقعاً يهيئ لهذا الفهم منطلقه المطابق بين مفهومي الفصاحة والبلاغة، وما أوصله إليه مجرى النقاش من الامتداد بمعنى البلاغة ليطول أداء المعنى في الصورة المقبولة، لينتهي إلى بلورة الموقف في هذه الصياغة المقررة لما سلف: "البلاغة كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمكّنه في نفسه كتمكّنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن وإنما جعلنا حسن المعرض وقبول الصورة شرطاً في البلاغة، لأن الكلام إذا كانت عباراته رثة ومعرضة خلقاً لم يسم بليغاً، وإن كان مفهوم المعنى، مكشوف المغزى، فهذا يدل على أن من شروط البلاغة أن يكون المعنى مفهوماً واللفظ مقبولاً على ما قدمناه"(63)، وهكذا يتأكد شمول مصطلح البلاغة عنده اللفظ والمعنى وتغليبه في الاستعمال على اصطلاح الفصاحة، إذ وجد أن لا معنى لتوظيف الاصطلاحين معاً والبلاغة تطول عنصري الدلالة معاً فضلاً عن أن مدخله ينبئ بهذه النتيجة على الرغم من أنه يفتح استثناءً آخر وهو بصدد استقصاء الآراء المختلفة في الموضوع، يروي أنه شاهد: "قوماً يذهبون إلى أن الكلام لا يسمى فصيحاً حتى يجمع مع هذه النعوت "نعوت الجودة السابقة" فخامة وشدة جزالة... قالوا: وإذا كان الكلام يجمع نعوت الجودة، ولم يكن فيه فخامة وفضل جزالة سمي بليغاً ولم يسم فصيحاً"(64)، وهذا الموقف لا يمثل إلا هامشاً دفعه إليه داعي الاستقصاء، إذ يظل الموقف النهائي مجملاً في قوله الجامع وهو "إن البلاغة إنما هي إيضاح المعنى وتحسين اللفظ"(65).
وهذه النتيجة تحيلنا إلى إشكال اللفظ والمعنى أصل القضية، وتمكننا من التساؤل عن طبيعة الصلة الجامعة بين المدخل التأسيسي القائم على بحث معاني الفصاحة والبلاغة، وثنائية اللفظ والمعنى، وهل أن صاحب "الكتاب لم يستطع استغلال هذا المدخل استغلالاً محكماً ولم يبن كتابه على أساسه فأجهضت المحاولة وانفصلت بقية الفصول عن هذا المدخل... فلا هو درس البلاغة والفصاحة من زاوية متحدة متفاعلة ولا استطاع أن يلتزم بالفهم الضيق. لذلك يشعر القارئ أنه يستأنف كل مرة كلاماً جديداً لا علاقة له بهذه المسألة. ومن أحسن الأدلة على ذلك دراسته لثنائية اللفظ والمعنى فقد كنا ننتظر أن يربطها ببحثه في معنى الفصاحة والبلاغة لكنه باشرها كمسألة مستقلة"(66)؟ فإذا كانت الوحدة المنهجية المطلوبة في الكتاب هي قيامه على وحدة الفكرة المنبثة في كامل الفصول التي يؤدي عرضها المتنامي إلى إيفاء كل تفرعاتها حقها من البحث والاستقصاء، فإن الصناعتين خلو من ذلك. وإن كان القصد تأكيد انتفاء كل صلة بين الفصول وهو ما قد يفهم من الحكم السابق فإن الأمر قد يحتاج إلى مراجعة، ذلك أنه ورغم الإقرار بأن فصول الصناعتين المنزلة في الأبواب المشكلة لحجم الكتاب مستقل بعضها عن بعض من حيث القضايا المدروسة، فإن خيطاً خفياً يلحم أطروحات العسكري المختلفة يتبدى بوضوح في القناعة الواحدة التي تحكم بحثه اللفظ والمعنى ومدخله التأسيسي الضابط لعلائق الفصاحة والبلاغة.
ولقد أدى استقصاء ما طرح في المدخل إلى الإقرار بشمول البلاغة المعنى واللفظ، وأدى  إلى  تبني هذا الموقف المسار الذي تحقق بمقابلة دلالات المصطلحين، إذ بدوا متطابقين لتختص البلاغة بالمعنى، والفصاحة باللفظ مع انسحابها على شرط التمام في آلة البيان. ثم تعود دلالة البلاغة لتنبسط على عنصر اللفظ الذي هو من اختصاص الفصاحة، ويصبح شرط البلاغة في الكلام متحققاً في وضوح المعنى ووضوح اللفظ، وهذه النتيجة هي التي خولت للعسكري الانتقال إلى بحث اللفظ والمعنى باعتبارهما عنصري البلاغة الرئيسيين، فإفرادهما بالبحث تفريع للقول في البلاغة ذلك أن تقصي المواصفات التي ينبغي أن تميز حضورهما بحث في بلاغة الكلام عموماً، هذا من جهة الصلة المنهجية بين المبحثين، أما من جهة القناعات التي تحكم منظوره لكل منهما فيكشف عنها استقراء رأيه في اللفظ والمعنى.
فإذا كان تحقيق البلاغة يقوم على إبانة المعنى في صورة مقبولة ذلك "أن الكلام إذا كانت عبارته رثة ومعرضة خلقاً لم يسم بليغاً وإن كان مفهوم المعنى، مكشوف المغزى"(67) فإن اشتراطه خصوصيات في اللفظ تتمحور حول الجودة والتحسين واكتفاءه غالباً في وصف المعنى بالتركيز على الإبانة والوضوح، أمر يتمشى مع المنطلق البلاغي في بحث الكلام إذ يختص بالتركيز على الوسائل الأسلوبية، وهذا الرأي يمهد لموقفه مردداً مقولة الجاحظ: "وليس الشأن في إيراد المعاني لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت"(68)، فهو يشترط في المعنى (الإصابة)، وهذا أمر يتوافق عنده مع الوصف بالوضوح إذ يظلان حاضرين في وصف المعنى، هذا من جهة ومن جهة أخرى يبدو الموقف تأكيداً لرأيه في بلاغة الكلام. يظهر ذلك في عودته للانطلاق من مصطلح البلاغة في استمراره التدليل على رأيه السالف، يقول: "ومن الدليل على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة، والأشعار الرائقة ما عملت لإفهام المعاني فقط لأن الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيدة منها في الإفهام، وإنما يدل حسن الكلام، وإحكام صنعته، ورونق ألفاظه، وجودة مطالعه، وحسن مقاطعه، وبديع مباديه، وغريب مبانيه على فضل قائله، وفهم منشئه. وأكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ دون المعاني. وتوخي صواب المعنى أحسن من توخي هذه الأمور في الألفاظ"(69).
يستخلص مما سلف أن العسكري لا يستأنف في بحث اللفظ والمعنى جديداً، بل يلحمه بتصوره البلاغة، وأن مسار بحث العنصرين عنده لا يأخذ هاجس التقصي عن أوجه ائتلافهما أو تشاكلهما أساساً بقدر ما ينبسط في تحديد أوصاف كل طرف، يتبدى فيه المعنى خصوصاً في وضع المادة المزينة بالمعرض الحسن، والمهم في هذا الموقف الذي وسم فيه بمنتهى الشكلانية(70) أنه لا ينسى تكرار شروط الصواب في المعنى دون أن يتغافل عن إيلاء صورته مقاماً عالياً، ذلك أن "الكلام إذا كان لفظه حلواً عذباً، وسلساً سهلاً، ومعناه وسطاً، دخل في جملة الجيد، وجرى مع الرائع النادر"(71). فإذا كان اللفظ الحسن يشفع لوسطية المعنى ووسطية المعنى إيذان بتنزل المعنى في مراتب، فإن المعنى إذا كان "صواباً، واللفظ بارداً وفاتراً، والفاتر شر من البارد، كان مستهجناً ملفوظاً، ومذموماً مردوداً"(72)، فصواب المعنى بقدر ما يبدو قيمة في المعنى ذاته وهو مقياس منطقي في تناول المعاني، لا يشفع لضعف الصورة اللفظية، إلا أن ذلك لا يعني التقديم المطلق للصورة اللفظية، إذ ما دام الاعتبار في الإخراج الجميل للمعنى الصواب، فإن ضعف الإخراج يوهن من بلاغة النص مثلما أن سخف المعنى يهلهل الكلام الجيد اللفظ ذلك أنه "لا خير فيما أجيد لفظه إذا سخف معناه، ولا في غرابة المعنى إلا إذا شرف لفظه مع وضوح المغزى، وظهور المقصد"(73). وهكذا تتضافر المواقف لتؤدي إلى تأكيد حضور المعنى واللفظ معاً في بلاغة العسكري، مع الإقرار بالأثر المتبادل بينهما. ويكفي لإزاحة وسمه بالشكلانية اعتقاده في هذا النص بسقوط الكلام الذي حسن لفظه وسخف معناه، وإن ظلت العلائق الرابطة بين العنصرين قائمة على منظور ثنائي يرصد أوصاف كل طرف على حدة دون أن يمتنع لديه أن يكون لأوصاف هذا الطرف أثر في الطرف الآخر سلباً وإيجاباً، مع الإشارة أخيراً إلى أن وصف المعنى يستقطبه مبدأ (الصواب) في حين يشترط في اللفظ الحسن والجودة.
وتأسيساً على ما سلف نستعرض موقفه الذي رأى فيه باحثون كثيرون تناقضاً مع ما سالف رأيه الذي اقتبس من الجاحظ، يقول: "إن الكلام ألفاظ تشتمل على معان تدل عليها وتعبر عنها، فيحتاج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى كحاجته إلى تحسين اللفظ، لأن المدار بعد على إصابة المعنى ولأن المعاني تحل من الكلام محل الأبدان والألفاظ تجري معها مجرى الكسوة، ومرتبة إحداهما على الأخرى معروفة"(74)، إذ إننا لا نرى في قوله "إن المدار على إصابة المعنى" ما يعكر رأيه في "المعاني المطروحة" حتى نسم موقفه بالتناقض من مشكلة اللفظ والمعنى(75)، ولا نجد أنه في نقده يقدم المعنى، وأنه في أبحاثه النقدية يقرر أن مدار البلاغة على اللفظ(76). صحيح أن هناك مغالاة يوقع العسكري فيه اعتماده في بعض الأحيان على النقل التام لنصوص سابقة مما يشوش مسار عرضه الفكرة الواحدة، إلا أنه في قضيتنا يظل الجوهر المؤسس لرأيه فيها إلحاحه على الصواب في المعنى والتحسين في اللفظ، وهما صفتان واردتان في نصّه السابق بصريح اللفظ. وإذا كان في النص ما يشي بميل إلى تقديم صواب المعنى، أدته إليه نيته تأكيد أهميته بالإضافة إلى اللفظ، فإن في بدء النص ما يكشف عن حضور الطرفين بالصفات المميزة لكل منهما، وحتى لو فرضنا أن إمكان استنباط تقديم المعنى على اللفظ وارد من خلال نصه السابق، فإذا هذا التقديم لم ينبن عليه أكثر من اشتراط الصواب في المعنى وهو الوصف نفسه الذي ذكره في نصوصه السابقة دون أن يتأسس على رأيه في "المعنى الصائب" إمكان أن يشفع لضعف اللفظ، وهو ما يكشف لو حدث عن تراجع في الموقف، بل العكس هو الوارد، إذ يواصل بسطه الرأي السالف في الصفحة نفسها من الكتاب بقوله: "والمعاني على ضربين: ضرب يبتدعه صاحب الصناعة من غير أن يكون لـه إمام يقتدي به فيه، أو رسوم قائمة في أمثلة مماثلة يحمل عليها. وهذا الضرب ربما يقع عليه عند الخطوب الحادثة، ويتنبه له عند الأمور النازلة الطارئة. والآخر ما يحتذيه على مثال تقدم ورسم فرط. وينبغي أن يطلب الإصابة في جميع ذلك ويتوخى فيه الصورة المقبولة، والعبارة المستحسنة، ولا يتكل فيما ابتكره على فضيلة ابتكاره إياه، ولا يغره ابتداعه لـه، فيساهل نفسه في تهجين صورته، فيذهب حسنه ويطمس نوره ويكون فيه أقرب إلى الذم منه إلى الحمد"(77). فليس الوصف بالاحتذاء والابتداع بكاف في ضبط خصائص المعنى، إنما تمامه في صوابه وتوخي إخراجه في الصورة المقبولة، ولو كان الأمر عنده في تقديم المعنى حيناً وتأخيره آخر لما أكد في آخر النص السابق ذهاب حسن المعنى المبتكر بتهجين صورته.
والواقع أن المبدأين الرئيسيين الضابطين اللفظ والمعنى عنده يظلان حاضرين في أغلب معالجته لهما. فهو يرى في شعر يورده أن معناه "جيد وليس للألفاظ رونق"(78)، ولم ينبن على ذلك تقديم هذا الشعر، ويعلق على شعر الأصفهاني العلوي بقوله: "ولست أورد أكثر شعره إلا لإصابة معناه دون لفظه لأن أكثر لفظه متكلف وجل صنعته فاسد"(79)، ولم يشفع صواب المعنى للعلوي أن يتبوأ شعره الصدارة بل يظل في نظر العسكري ضعيفاً. وفي مواقف لنقاد سابقين كابن قتيبة وابن طباطبا ما كان يتمشى مع رأيه لو كان لفظياً دوماً، لكنه يورد بعض أشعار استشهدوا بها كنماذج من غزليات جرير المشهورة من مثل قوله: "إن العيون التي في طرفها حور"، ويرفض أن يكون هذا الشعر من الذي يستحسن لجودة لفظه وليس له كبير معنى بل يجزم بأنه لا يعلم" معنى أجود ولا أحسن من معنى هذا الشعر"(80)، ذلك أن حضور العنصريين في معالجته النص راسخ يؤكده رأيه في أن المراد من الشعر، "حسن اللفظ وجودة المعنى"(81) ذلك أن "سبيل الشعر أن يكون كلامه كالوحي ومعانيه كالسحر مع قربها من الفهم. والذي لا بد لـه منه حسن المعرض ووضوح الغرض"(82). وهكذا يتأسس استقصاؤه المعاني في كتابه "ديوان المعاني" على خصائص ما يشترطه في الألفاظ والمعاني إذ يقدم بين يدي كتابه بقوله: "جمعت في هذا الكتاب أبلغ ما جاء في كل فن وأبدع ما روي في كل نوع من أعلام المعاني وأعيانها إلى عواديها وشذاذها، وتخيرت من ذلك ما كان جيد النظم محكم الرصف غير مهلهل رخو ولا متجعد فج"(83).
ويبقى موقفه الذي يتأكد فيه جمعه المعنى واللفظ قائماً بحسب المواصفات التي حددت، وهو رأيه في صنعة الكلام إذ بالرغم من أنه يعتمد على نصوص أوردها الجاحظ لبعض البلاغيين، وعلى رأي ابن طباطبا خصوصاً فإن ما أورده منها ينسجم مع أطروحاته، يقول: "إذا أردت أن تصنع كلاماً فأخطر معانيه ببالك، وتنوق له كرائم اللفظ" (84)، ويمكن إلحاق رأيه في السرقات بما سبق إلى أنه لا يعدو أن يكون رأياً مكروراً(85).
وللعسكري رأي في نظم الكلام عموماً يؤلف دعماً لموقفه الداعي إلى توخي إيقاع الصورة الحسنة في المعنى، يظهر ذلك في حديثه عن حسن الرصف والتأليف، وكمال الصوغ والتركيب(86)، وفي ترداده رأي الجاحظ في القرآن وما خصه الله به من حسن التأليف وبراعة التركيب(87) وفي وصف الشعر بالكلام المنسوج وأن حسنه في تلاؤم نسجه(88)، وفي الإشارة إلى التئام الكلام عموماً(89)، ليبسط أشكال تحقيقه في دعوته إلى جعل الكلام "مشتبهاً أولـه بآخره، ومطابقاً هاديه لعجزه، ولا تتخالف أطرافه، ولا تتنافر أطراره، وتكون الكلمة منه موضوعة مع أختها، ومقرونة بلفقها"(90) ليشير إلى أن من سوء النظم المعاظلة وهي ركوب بعض ألفاظه رقاب بعض(91). ثم لينتهي أخيراً إلى تخصيص باب كامل من كتابه "الصناعتين" للبيان "عن حسن النظم وجودة الرصف والسبك وخلاف ذلك"(92).
وهو "يستعمل هذه الألفاظ الثلاثة مترادفة"(93) ثم يزيد معانيها بعض الشرح والتحديد يقول: "وحسن الرصف أن توضع الألفاظ في مواضعها، وتمكّن في أماكنها، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير، والحذف والزيادة إلا حذفاً لا يفسد الكلام، ولا يعمّي المعنى، وتضم كل لفظة منها إلى شكلها، وتضاف إلى لفقها، وسوء الرّصف تقديم ما ينبغي تأخيره منها، وصرفها عن وجوهها، وتغيّر صيغتها، ومخالفة الاستعمال في نظمها"(94).
والحقيقة أن الاهتمام بالصورة الحسنة والتحسينات اللفظية المتحققة في الكلام لدى العسكري لم ينبن عليه الاستهانة بالمعنى، بل ظلّ يلح على تطلّب الصواب والوضوح فيه، وأن فهم العنصرين بهذا المنحى هو الذي ألّف رأيه في البلاغة التي تبدو عنده شاملة لهما معاً.
وأما لدى ابن سنان الخفاجي فإن الإشكال يأخذ مدى أكثر التواء وتعقيداً، إذ كان طموحه إلى استغلال النتاج السابق في مجال النقد والبلاغة ضمن مجاري ضبطها تصوره فعاليات المعنى واللفظ مدعاة إلى التقسيم والتفريع لاحتواء المادة، ولو ظلت المسألة خلاصة لاجتهاد في حدود اللفظ والمعنى التمس له العذر، ولكن محاولة الزج بالتقسيمات المتفرعة من المبدأين السابقين في إطار من فهم خاص لمصطلحي البلاغة والفصاحة أوقعه في حرج، مما اضطره إلى تمديد مجال المعنيين ليستوعبا محصول التفريعات التي يشملها استقصاء حضور الألفاظ والمعاني أفراداً وتراكيب في الكلام.
وإذا كان الاختلاف وارداً مع ابن سنان الخفاجي في فهمه الفصاحة والبلاغة والفواصل التي تحد مجال كل نوع، فإنه لا بدّ من الإقرار بأن تفريعاته المستقرئة للفصاحة والبلاغة محكومة بمقدماته ومشدودة إلى أصوله النظرية، وأنه لم يحد عن المسار الذي ضبطه في المدخل، وإن أوحت التقسيمات إلى باحثين كثيرين بالاضطراب والقلق(95).
ومن هنا يكون لزاماً البدء بعرض رأيه في قضية العلل الأربع أو الخمس إذا اعتبرنا الآلة من مشمولاتها، التي تؤلف الإطار النظري العام الذي يحتوي أصول آرائه المنظمة لعلائق العنصرين في بنية الكلام.
يقوم رأيه في القضية على استغلال كل من قدامة والآمدي معاً مما أوقع رأيه في كثير من التعقيد واللبس. يقول فيما يشبه رأي قدامة إن "صناعة التأليف في المعنى الفاحش مثل الصناعة في المعنى الجميل، ويطلب في كل واحد منهما صحة الغرض وسلامة الألفاظ على حدٍّ واحد، وليس لكون المعنى في نفسه فاحشاً أو جميلاً تأثير في الصناعة"(96)، ولكن الجديد يكمن في استخدامه التأليف بدل الصورة كما هو الشأن عند قدامة حيث إن المعاني عنده مادة والشّعر فيها كالصورة، وهو ينص على أن الجودة تظل من اختصاص التأليف وحده مشترطاً في المعنى أياً كان صحة الغرض، وهذا يدل على انضباط المعاني لديه في خانة المنطق أيضاً.
ثم يعود إلى نفس القضية بمزيد من التدقيق ليحيد عن هذا التوجه الذي يحتويه نصّه السابق، فيقول مدققاً هذه الأصول ومقابلاتها في صناعة الكلام "إن الموضوع هو الكلام المؤلف من الأصوات... فأما الصانع المؤلف فهو الذي ينظم الكلام بعضه مع بعض... وأما الصورة فهي كالفصل للكاتب والبيت للشاعر... وأما الآلة فأقرب ما قيل فيها إنها طبع هذا الناظم، والعلوم التي اكتسبها بعد ذلك... وأما الغرض فبحسب الكلام المؤلف فإن كان مدحاً كان الغرض به قولاً ينبئ عن عظم حال الممدوح، وإن كان هجواً فبالضد..."(97). ولكن ما دام ينص صراحة على أن الموضوع هو الألفاظ، فكيف يمكن حمل هذا الرأي على نصه الأول الذي يرى فيه أيضاً أن "صناعة التأليف تكون في المعاني"؟
إنه يحاول أن يضبط رأيه حين يدفع أن يكون الموضوع في المعاني كما ذهب قدامة في "نقد الشعر"، فيرى أنه "يجب أن يقال لـه إذا ذهبت إلى أنّ المعاني هي الموضوع خبّرنا عن الألفاظ التي أخذها هذا الصانع المؤلّف فألّفها إذا لم تكن عندك موضوعاً لصناعته فما منزلتها من الأقسام التي اعتبرها الحكماء في كلّ صناعة؟ والتأمل قاضٍ بصحتها"(98)، وإذ يستقيم له التدليل على أن موضوع الصناعة لن يكون إلا الالفاظ بعد أن يؤكد استحالة أن تكون الآلة أو الصانع أو الصورة أو الغرض موضوع الصناعة، يطرح الإشكال الأخير متسائلاً: "فإن قال لنا: ما تقولون أنتم في المعاني مع أن علقتها أيضاً وكيدة؟؟ قلنا: المعاني وتأليف الألفاظ هي صناعة هذا الصانع التي أظهرها في الموضوع"(99)، وهذا لا يعكر في نظره اختيار أن تكون مادة الصناعة هي الألفاظ، إذ إن الصناعة تتحقق بالتأليف الذي يعضده المعنى. لكن ما علاقة المعنى المنسجم مع التأليف هنا بالمعنى الذي تتجسّد فيه صناعة التأليف نفسها؟ نلاحظ أن المعنى في الموقف الأوّل منزّل في إطار قيمي، فلم تكن فحاشته أو جماله لتطول الصنعة إذا كان متلائماً مع الغرض وخلواً من الخطأ، في حين يتبدى المعنى هنا قسيماً للتأليف الطارئ على الموضوع الذي له فعالية في الصنعة إذ هو شطرها، فالمعنى في مستوى التأليف هو أقرب ما يكون إلى الدلالة العالقة بنسيجها، والمعنى في المستوى الآخر هو الوجه الآخر للمعنى المتآلف الذي يمكن أن ينضبط في خانات البحث المنطقي، والأخلاقي، ويرتّب وفق مواصفات الأغراض ويكيّف حسب مقتضيات الإطار الاجتماعي عامّة...
وهكذا إذ يتنزل المعنى في مستويين: المستوى العالق بالتأليف والمستوى المستقل إن صح الوصف –وليس مرد استقلاله إلا أنه يكون موضوعاً لفعاليات أخرى منطقية وأخلاقية وغيرها- يتنزّل موضوع الصنعة أيضاً في مرتبتين:
مرتبة الألفاظ، ومرتبة التأليف. وما دام كلاهما يتعاضدان في فعل الصنعة أصبح لزاماً دحض مقولة قدامة القائمة على أن الموضوع الرديء لا يؤثر في الصورة الجيدة، واشتراط الانتقاء والاختيار في الألفاظ نفسها، ذلك أن ناظم الكلام قادر "على اختيار موضوعه، غير محظور عليه تأليف ما يؤثر منه"
(100)، ليخلص إلى ضبط العنصرين معاً المؤسسين لحقل الفصاحة بقوله: "الفصاحة عبارة عن حسن التأليف في الموضوع المختار"(101).
وهذه النتيجة تخوّل لنا إدراك الضوابط التي كانت وراء تصنيفه المواد اللفظية والمعنوية التي ستظل مشدودة  إلى  الأصول السابقة حيث سيكون الاستقصاء مرتباً حسب علائق هذه المستويات في البنية العامة، إذ يبدأ ببحث موضوع الصنعة الذي هو اللفظ المفرد وشروط فصاحته، ففصاحة التأليف بشمولها الألفاظ والمعاني في أقسام يمليها تصوره طبيعة العلاقة بين العنصرين، ثم يعرض في مرحلة ثالثة المعاني المفردة كما أسماها. وها نحن نستحضر بإيجاز عناصر كل طرف وصفاته الفنية مرجئين تنزيل هذه الأقسام في خانات الفصاحة والبلاغة إلى حين يكتمل لنا الفهم بتفريعاته المتشعبة لكي نتجنّب اللبس الذي يمكن أن يضعنا فيه تحديده حقلي الفصاحة والبلاغة مبدئياً.
أما فيما يتعلّق بالصفات التي اشترطها في موضوع الصناعة أو كما أسماه بالفصاحة في اللفظة المفردة، فإنها شروط تحدّد كثير منها قبله ودقّق بعده، وقد وسع في مجالها حتى شملت صفات لا يمكن أن يتفق على أنها من الميدان الذي ذكر وهي إجمالاً ثمانية أشياء، نكتفي بالإشارة إليها بإيجاز. فالأول أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروف متباعدة المخارج، والثاني أن تجد لتأليف اللفظة في السمع حسناً ومزية على غيرها، وإن تساوياً في التأليف من الحروف المتباعدة؛ والسر في ذلك تأليف مخصوص مع البعد. والثالث: أن تكون الكلمة – كما قال أبو عثمان الجاحظ- غير متوعّرة وحشية، والرابع أن تكون الكلمة غير ساقطة عامية، كما قال أبو عثمان أيضاً. والخامس: أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح غير شاذة. ويدخل في هذا القسم كل ما ينكره أهل اللغة ويردّه علماء النحو من التصرف الفاسد في الكلمة. والسادس ألا تكون الكلمة قد عبّر بها عن أمر آخر يكره ذكره، فإذا وردت وهي غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت، وإن كملت فيها الصفات التي بيّناها. والسابع: أن تكون الكلمة معتدلة غير كثيرة الحروف.
والثامن أن تكون الكلمة مصغرة في موضوع عبّر بها فيه عن شيء لطيف أو خفيّ أو قليل أو ما يجري مجرى ذلك(102)... وهذه المقاييس فضفاضة تجاوزت المعهود من شروط الفصاحة في المفرد، وكانت موضع انتقاد قديماً وحديثاً، فإذا كان بعض هذه الشروط متفقاً عليه يقوم على ضوابط لغوية دقيقة فإن "بعضها الآخر إما نسبي يمكن أن يختلف في تقديره الناس –الشرط الثاني- أو في غير محلّه إذ لا دخل للفظ فيه- الشرط الثامن-"(103).
أما الشروط العالقة بالتأليف فهي أقسام أربعة: قسم يشترك مع شروط اللفظة المفردة، وقسمان كالأصلين يتفرع منهما شروط عدة تتعلق بلحمة الكلمات في السياق على مستويات مختلفة، ورابع يبدو في أشكال من تآلف الوحدات في السياق أيضاً، إلا أن تعلق المعنى فيه باللفظ عبر محور عمودي إن صحّ الوصف، هو الذي جعله يخص هذا القسم بوصف "الفصاحة والبلاغة".
أما فيما يخص المتّفق مع شروط اللفظة المفردة، فمن أبرزه شرط تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج، وانعدامه في التأليف أقبح "وذلك أن اللفظة المفردة لا يستمر فيها من تكرار الحرف الواحد أو تقارب الحرف مثل ما يستمر في الكلام المؤلف إذا طال واتّسع"(104).
وإذا كان لا علاقة للتأليف بالشرط الثاني والثالث والرابع إلا ما يتحقق فيه من حسن وقبح تبعاً لما يثيره التواتر والترادف في استعمال هذا الصنف أو ذاك، تماماً كالشرطين السابع والثامن(105)، فإن للشرطين الخامس والسادس علاقة بالتأليف ذلك أن الشرط الخامس ينص على أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح، ولا يتم للمتكلم ذلك حتى يضع كل اسم في موضعه ويلفظ به على حدّ ما يلفظ به أهله، ولا يكون ذلك حتى يورد اللفظ في سياق معيّن، وبذلك يدخل الإعراب فيه لأن معاني الكلام تتعلق به، وهو الدليل على المقصود منها، وبه يزول اللبس، والجواز فيها(106)، وبهذا التصور يكاد يختص الشرط الخامس بالتأليف رغم ما يوحي به إلحاحه على مجاراة العرف الذي يمكن أن يشمل الخروج عن القياس في بنية الكلمة أيضاً، خاصة أنه يشير إلى تجنب الشذوذ في الكلمة، أو أن تكون اللفظة بعينها غير عربية(107). أما الشرط السادس فلا يكاد يكون خالصاً إلا للتأليف إذ إن استعمال الكلمة في التعبير عن أمر آخر يكره ذكره لا يتحقق إلا في السياق.
ثم ينتقل إلى الشروط الخاصة بالتأليف، فيبسطها في أصلين كبيرين يحتوي كل منهما جملة مسائل ينتظمها جوهر الانضواء تحت الأصل الواحد، ثم يختمها بشروط مشتركة بين الفصاحة والبلاغة؛ وهو يعي انضواء هذه الشروط تحت ظل هذه الأقسام أو الأصول الجامعة، حيث يباشرها بقوله: "إن أحد هذه الأصول وضع الألفاظ موضعها حقيقة أو مجازاً لا ينكره الاستعمال ولا يبعد فيه"(108). وهذا الأصل جامع لكثير من المبادئ المتعلقة بمراعاة الانتظام السليم للوحدات في التركيب وتنزيلها مواضعها الحقة، وإن شمل قضايا في الدلالة كالاستعارة، إلا أن فهم المؤلف لها إذ يقول فيها بالنقل سوّغ له إيرادها في هذا القسم الذي تعرّض فيه إلى التقديم والتأخير، والقلب، وحسن الاستعارة، والحشو، ومداخلة الكلام بعضه بعضاً أو المعاظلة، وعدم إيراد ألفاظ الذّم في المدح، وألفاظ المدح في الذّم، وألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين وألفاظ أهل المهن والعلوم(109).
ثم ينتقل إلى الأصل الثاني الذي يحدده بقوله: "ومن شروط الفصاحة المناسبة بين اللفظين، وهي على ضربين: مناسبة بين اللفظين من طريق الصيغة ومناسبة بينهما من طريق المعنى"(110)، وهو مبدأ عام يشكل أشكالاً عدّة من أنماط التناسب الحادثة بين وحدات الكلام في مستوييه الصوتي والمعنوي، ذلك أن كل علاقة تضم وحدتين أو أكثر تزيد من بهاء الكلام لما لأشكال التوازن الحادث بين وحداته من أثر في إيقاع الكلام وتناسق عناصره، وهو أمر يمتد به ليغطي مساحات عامة في البنية كالقافية والوزن. وما أورده من هذه الأوجه عالقاً بالصيغة فهو السجع والازدواج والقوافي في الشعر التي يراها تجري مجرى السجع، ثم التصريع والترصيع، ومنها أيضاً حمل اللفظ على اللفظ في الترتيب ليكون ما يرجع إلى المقدّم مقدّماً وإلى المؤخر مؤخراً، ومن المناسبة أيضاً التناسب في المقدار، وهذا في الشعر محفوظ بالوزن، ومنه المجانس. أما تناسب الألفاظ من طريق المعنى فإنه يتم على وجهين: أن يكون معنى اللفظتين متقارباً، أو أحد المعنيين مضاداً للآخر وهو المطابق، أو قريباً من المضاد(111).
أما ما عددناه قسماً رابعاً فهو يذكره تحت وصف: شروط الفصاحة والبلاغة، وهو قضايا خمس هي: حسن الكناية(112)، والإيجاز والاختصار ويتعرّض فيه للمساواة والتذييل، ومنه أيضاً وضوح الكلام وظهوره حتى لا يحتاج إلى فكر في استخراجه، ثم الإرداف والتتبيع، وأخيراً التمثيل(113).
وبهذا ينتهي قسم التأليف بتفرعاته وأقسامه، ليخلص منه إلى القسم الثالث المعنون بالكلام في المعاني المفردة وهو يشعر بصعوبة حصر المعاني بقوانين تستوعب أقسامها كما ذكر في الألفاظ إذ إن ذلك "ثمرة علم المنطق، ونتيجة صناعة الكلام"(114)، ثم ينتهي إلى مقصده في إيفاء معاني صناعة الكلام حقها من الحصر والتنبيه على الخطأ باسطاً قبل ذلك مقدمة نظرية في الدلالة تحصر المعاني في وجودها المتعدد: في نفسها، وفي أفهام المتصورين لها، وفي الألفاظ التي تدلّ عليها، وفي الخط. وإذا كان وجود المعاني في الألفاظ هو موضوع البحث فإنه ليس يتكلم "عليها من حيث وجدت في جميع الألفاظ، بل من حيث توجد في الألفاظ المؤلّفة المنظومة على طريقة الشعر والرسائل وما يجري مجراهما فقط"(115).
أما حصر هذه الأوصاف فيرسلها في قائمة عامة تشمل الصحة في المعاني والكمال والمبالغة والتحرّز مما يوجب الطعن والاستدلال بالتمثيل والتعليل وغيرهما، ثم يذكر من ذلك تفصيلاً: الصحة في التقسيم وتجنب الاستحالة والتناقض، وذلك بجمع المتقابلين من جهة واحدة، ويعرض للفرق بين المستحيل والممتنع، والجائز، ثم يعرض لصحة التشبيه، والتشبيه عنده معنى، وصحة الأوصاف في الأغراض، وفيها يعرض لضرورة ملائمة المعاني للغرض، ويتحقق ذلك في النثر أيضاً باحترام المواضعات في الخطاب والاصطلاحات، ثم يثير إشكال المدح بالحسن والجمال، والذّم بضدها، ويخالف قدامة في الموضوع منضماً إلى الآمدي، ثم يعرض لصحة المقابلة في المعاني، وصحّة النسق والنظم ويريد به حسن التخلّص من معنى إلى آخر، وصحة التفسير، وكمال المعنى، ثم المبالغة والغلو، والتحرّز مما يوجب الطّعن، فالاستدلال بالتمثيل والتعليل، دون أن ينسى إثارة مشكلة القدماء والمحدثين، ومسائل أخرى كحدّ الشعر ووظيفته والمفاضلة بينه وبين النثر(116)...
وقد اضطرنا إلى هذا العرض الطويل مقصد التدليل على أن الأقسام التي خضع لها الكلام عند الخفاجي قائمة على أساس من التصوّر النظري متنزلة في إطارها منه ومحكومة بفهم للفصاحة والبلاغة لا يتسنى إدراكه إلا بعد الوعي بالفواصل الحاسمة بين هذه الأقسام.
وتأسيساً على ما سلف يمكننا إدراك قوله مفرقاً بين الفصاحة والبلاغة "إن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع المعاني، لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة، وإن قيل فيها فصيحة، وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغ، كالذي يقع فيه الإسهاب في غير موضعه"(117). فقصره الفصاحة على الألفاظ لا يعني بها الألفاظ المفردة إذ خاتمة النص تؤكد ذلك، فالكلام المسهب في غير موضعه فصيح وليس بليغاً، فهي شاملة للألفاظ المفردة والمركبة، يؤكد ذلك اعتباره ما تعرّض لـه في قسم الألفاظ المؤلّفة منضوياً تحت الألفاظ عموماً(118)، من هنا يحصر الفصاحة في موضع آخر في التأليف فقط، ذلك أن الزّبدة في العلوم الأدبية والنّكتة "نظم الكلام على اختلاف تأليفه، ونقده ومعرفة ما يختار منه مما يكره، وكلا الأمرين متعلّق بالفصاحة، بل هو مقصور على المعرفة بها"(119).
فالفصاحة إذاً شاملة للألفاظ المفردة والمؤلفة، وهو ما أسماه صريحاً في الأقسام السابقة بشروط الفصاحة. ولا تناقض عنده في قصرها مرة على الألفاظ ومرة أخرى على التأليف كما هو صريح في النصين السابقين، وهذا يؤدي به إلى الاستغناء بأحد الطرفين في وصفها. يظهر ذلك في نصّه الآتي الذي يورده عقب سرده شروط الفصاحة في الألفاظ المركبة. يقول: "فهذا منتهى ما نقوله في الألفاظ بانفرادها واشتراكها في المعاني، ومن وقف عليه عرف حقيقة الفصاحة ومائيتها، وعلم أسرارها وعللها، فأما الكلام على المعاني بانفرادها، فقد قدمنا القول بأن البلاغة عبارة عن حسن الألفاظ والمعاني، وأن كل كلام بليغ لا بدّ من أن يكون فصيحاً، وليس كل فصيح بليغاً، إذ كانت البلاغة تشتمل على الفصاحة وزيادة، لتعلق البلاغة مع الألفاظ بالمعاني"(120)، فكيف تسع الفصاحة الألفاظ بانفرادها وأيضاً باشتراكها مع المعاني، واشتراك الألفاظ مع المعاني حقل من حقول البلاغة بصريح قوله؟
والمسألة متماشية مع ما أورده من أقسام. فكما رأينا فإن اصطلاح "الألفاظ بانفرادها" يشمل صفات المفرد، والمؤلف بأقسامه الثلاثة الأولى التي عرضناها، أما اشتراك الألفاظ مع المعاني فهو متعلق بالقسم الرابع من المؤلَّف الذي عَنْونَ قضاياه بشروط الفصاحة والبلاغة. من هنا رأى لزاماً لكمال العلم بالفصاحة إضافة هذا الركن الرابع في التعريف ليتسنى لها شمول المفرد والمركب المتآلف، والمشترك بالمعنى، وهذا الأخير نفسه من حقول البلاغة أيضاً فهو شركة بين اثنين، مع اختصاص البلاغة بالمعاني مفردة.
ومما يؤكّد هذا المنحى بالإضافة إلى تطابقه مع الأقسام التي عرضنا لها قصره البلاغة على الألفاظ والمعاني معاً، ثم اعتباره أيضاً المعاني المفردة من اختصاصها، فكيف تكون المعاني مفردة؟ نستوضح ذلك من إيراد بقية النّص "فإذا كان قد مضى الكلام في الألفاظ على الانفراد والاشتراك، فلنذكر الآن الكلام على المعاني مفردة من الألفاظ ليكون هذا الكتاب كافياً في العلم بحقيقة البلاغة والفصاحة، فإنّهما وإن تميّزا من الوجه الذي ذكرته فهما عند أكثر الناس شيء واحد، ولا يكاد يفرق بينهما إلا القليل"(121). لقد رأينا في ذكره المعاني مفردة من الألفاظ أن الأمر يتعلّق بقسم من المعاني العامة عكس ما قد يوهم به اصطلاح "مفردة"، وإنما قصده المعاني خلواً من بحث اللفظ تماماً كاصطلاح الألفاظ على الانفراد، ليست المفردة فقط، بل تشمل المفرد، والمركب بأقسامه الأربعة الخالص منها والمشترك. فالفصاحة إذاً تشمل المفرد والمؤلف، والبلاغة تتعلق بالمعاني المفردة، ويشتركان في قسم ذكر مسائله تحت عنوان "شروط الفصاحة والبلاغة" وهي الكناية والإيجاز والتتبيع والتمثيل ووضوح العبارة عن المعنى، ويسميه أيضاً المشترك أو ما تشترك فيه الألفاظ والمعاني. وهذا التداخل بين حقلي البلاغة والفصاحة في الألفاظ المؤلفة هو الذي يجعل التمييز بينهما صعباً باستثناء جوهر الفرق بينهما الكامن في اختصاص البلاغة بالمعاني المفردة، ذلك أنه "إذا كانت الفصاحة شطرها وأحد جزئيها، فكلامي على المقصود –وهو الفصاحة- غير متميّز إلا في الموضع الذي يجب بيانه من الفرق بينهما على ما قدمت ذكره. فأما ما سوى ذلك فعام لا يختص، وخليط لا ينقسم"(122). والسر في كونه عاماً لا يختص وخليطاً لا ينقسم هو انضواؤه كلّه في قسم الألفاظ المؤلّفة، فلا يمكنه فصل مجالاته المشتركة بإفراد ما يخص البلاغة عن خاص الفصاحة.
وهكذا نجد تعريفات الخفاجي بالرغم من الاعتراف بتعقيدها تتماشى باعتبارها حدوداً حاصرة لمجالات فعالياتها مع أصلها النظري العام المتمثل في قضية العلل ومقابلها من عناصر الكلام، وتتناسق هذه المنطلقات النظرية مع التفريعات الجامعة للمسائل التفصيلية.
ونحسب أن هذا الفهم هو الذي أوصلنا إلى التنسيق بين مختلف آرائه وإلى إزالة ما يمكن أن يكون مدعاة لوسمه بالتناقض أو التضارب، كما هو الحال في مثل هذا الموقف الذي ينطلق من رأي ابن سنان في نصه الذي جمع فيه خلاصة بحثه الألفاظ المؤلّفة بقسميها اللفظي الخاص والمشترك مع المعاني، فيرى أنه بمقارنة هذا "بالفقرة التي ذكر فيها الفرق بين الفصاحة والبلاغة حيث يقول: "والبلاغة لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع المعاني". نستنتج أن ما ذكر في شروط التأليف هو من مجال البلاغة؛ لكن المؤلف يضيف بعد ذلك مباشرة ما يصد عن الفهم" ومن وقف على هذا عرف حقيقة الفصاحة ومائيتها" ثم يضيف ما يفهم منه أن البلاغة لا تتم إلا بالقسم المتبقّي من الكتاب وهو الكلام (على المعاني مفردة من الألفاظ) بغية أن يكون الكتاب (كافياً في العلم بحقيقة البلاغة والفصاحة). ويختم الفقرة بشيء من التراجع والاحتراز فيقرر أنهما عند أكثر الناس شيء واحد"(123). والواقع أن كل الإشكال يثيره حديثه عن القسم المشترك المؤلّف من الألفاظ والمعاني الذي هو حدّ عام وخليط بين البلاغة والفصاحة، وبجلائه يزول الالتباس والتضارب ويتحدد لكل من الفصاحة والبلاغة مجاله، مع الإقرار بتداخل اختصاصهما. والإشكال نفسه يدعو الباحث إلى تكرار مؤاخذته الخفاجي بما اعتبره تذبذباً، إذ يرى أن "الناظر في القسم المخصّص لشروط التأليف يلاحظ هذا التذبذب على مستوى العبارة.
فكثير من الشروط بدأها بقوله: (ومن شروط الفصاحة والبلاغة) بينما المفروض أن تكون لشروط الفصاحة بالتأليف"(124). علماً بأن الخفاجي نزّل تلك الشروط في خانة المشترك بين الفصاحة والبلاغة عن وعي، تماشياً مع أسسه النظرية كما شرحنا ذلك في التعريفات. ولعل ذكره هذه المسائل المشتركة في آخر شروط الألفاظ المؤلفة، باستثناء الكناية، دليل منهجي آخر على إحساسه بتميّزها عن باقي قضايا التأليف.
ولكن ما هو الأساس الخفي الذي جعل الخفاجي ينحو في التقسيم هذا المنحى؟ وهل لذلك صلة بفكرته عن اللفظ والمعنى؟ نحسب أن رأياً في اللفظ والمعنى هو الذي كان خلف هذا التقسيم، فقد واجهته وهو يبحث علائق المعنى باللفظ في النص مسألة الدلالة وكيفية تحققها.
فحضور الألفاظ المفردة بالمواصفات التي ذكرها في النص تحيل البسائط مركبات، حيث إن المستويات التي لاحظها في المفردة الواحدة تعود لتتضخم في النص، صوتياً كما لحظه في أشكال التناسب الصوتي البحت بما فيه الوزن والقافية، وتركيبياً كما أبداه استقصاؤه لأنماط التلاحم بين الوحدات في التركيب، وكذا دلالياً، كما يظهر عميقاً في أشكال التعبير غير المباشر عن المعنى في التتبيع والتمثيل والكناية وغيرها. وتلاحم هذه المستويات يزداد في تصوره رسوخاً بموجب إقراره بأن "المعاني وتأليف الألفاظ هي صناعة هذا الصانع التي أظهرها في الموضوع"(125). وإذا كان المعنى في المستوى المتآلف ينضوي في بنية يمكن فكّ مغالقها بالاعتماد عليها ذاتها وبحث علائق الوحدات ألفاظاً ومعاني في إطارها، فإن للمعنى وجهاً آخر تستلزم مقاربته تنزيله في إطاره العام من بنية المجتمع بالاستناد إلى أساس من العقل، ذلك أن المنظور الوظيفي خاضع لمقتضيات الشروط الاجتماعية، وقوانين التصوير الشعري للواقعة أو "الحقيقة" محكومة بجوهر منطقي ومشدودة في الآن نفسه إلى نوع أدبي. ويتأكد رسوخ هذا المنطلق لدى الخفاجي المتمثل في فهم صلات المعاني بالألفاظ في النص اعتباره الألفاظ وسيلة للمعاني، ذلك "أن الألفاظ غير مقصودة في أنفسها، وإنما المقصود هو المعاني والأغراض التي احتيج إلى
العبارة عنها بالكلام، فصار اللفظ بمنزلة الطريق إلى المعاني التي هي مقصودة"(126).
فلو بقي التصور قائماً على رأي في اللفظ والمعنى تأسّس عليه الكتاب كله لوجد التبرير والاستساغة، لكنه أبى إلاّ أن يزجّ بالتركيبة كلها في قناتي الفصاحة والبلاغة، فأوقعه هذا التوجه في الحرج، هذا إذا انطلقنا من المعهود الشائع عن دلالات الفصاحة والبلاغة، أما إذا اعتمدنا منهجاً وصفياً نستقرئ فيه الموجود بربطه بمنطلقاته التأسيسية، فالانسجام وارد بين المنطلقات والتقسيمات كما رأينا.
لكنه قصد حشر تفريعاته في قناتي الفصاحة والبلاغة معاً فاضطر إلى الفصل بين هذه الأقسام. وإذا كان قد سهل عليه تقسيم الألفاظ المفردة والمعاني المفردة بين الفصاحة والبلاغة بسهولة، فإن الإشكال كامن في الألفاظ المركّبة، إذ هي تشمل المعنى واللفظ، فوضعها في خانة الفصاحة تجاوز، واعتبارها بلاغة معناه حصر للفصاحة في المفرد. من هنا عمد إلى تقسيمها بينهما، ولكن ما الأساس الذي يقوم عليه الفصل ما دام يمتنع لديه اعتبار حقل الألفاظ المركبة كله شركة بين الاثنين، ولو كان كذلك لذكر كل قضاياه تحت عنوان شروط الفصاحة والبلاغة معاً؟ نحسب أنه شقي قبل أن يصل إلى الحل الذي توخاه في الفصل بين المتآلف من الألفاظ باعتماد أساس خفي غير حاسم، فما دامت الفصاحة تتعلق باللفظ، فإن القسم من الألفاظ المركبة الذي يكون من اختصاصها يجب أن يتميّز بخواص لفظية بيّنة، فوجد ذلك أولاً في المشترك بين صفات المفرد والمركب، ثم اكتشف أن قضايا التركيب من مثل مباحث المعاظلة والتقديم والتأخير والقلب ومثيلاتها مما رأيناه سابقاً، أقرب إلى الارتباط باللفظ إذ صلته حميمة بمسائل السبك والنسج والنظم وهو يتحقّق عموماً في أنماط التلاحم بين الوحدات في السياق، فنزّله في خانة الفصاحة، وألحق به وهذا تأكيد للسابق، مسائل التناسب الصوتي من سجع وجناس وازدواج، وبرر له هذا التوجه جعل الوزن والقافية منه، ومسائل التناسب تطول الوحدات معنوياً أيضاً، ومن هنا اعتبر من تناسب الألفاظ معنوياً الطباق وتقارب الألفاظ في المعنى ما داما يقعان ضمن علائق الوحدات توزيعياً وإن تعلقا بمعانيها، فرأى أن ضمهما إلى أوجه التناسب ممكن، وبهذا الحصر أنهى تركة الفصاحة. والباقي من الشروط المشتركة التي تدخل في مسائل الدلالة شركة بين الاثنين، فهي من جهة كونها من شروط التركيب فصاحة، ومن جهة صلتها العميقة بالمعنى بلاغة. وبذلك اعتبر الخفاجي عمله مسحاً للحقلين معاً مع مقتضيات الفصل بينهما علماً بأن الفصاحة شطر من البلاغة إذ البلاغة تشملها وزيادة.
فالسبب الجوهري الذي أوصله إلى هذه النتيجة –كما بدا لنا- هو رأي في المعنى واللفظ ومعالجة لعناصر النص أراد لها أن تزج في اصطلاح الفصاحة والبلاغة فتعسف القسمة. ولم يوسّع من مفهوم الفصاحة فقط لتنضوي تحتها "الوجوه البلاغية بمختلف أقسامها: التركيب والدلالة والمحاسن بحكم أن اللغة حقيقة كانت أو مجازاً، كناية أو تصريحاً موضوعة للإبانة عن المقاصد"(127)، ما دام يفهم الفصاحة بمعنى الإبانة والإظهار، وإنّما وسّع من مفهوم البلاغة أيضاً، وإلا فما علاقة البلاغة بالغلو وبحث المعاني الملائمة للأغراض والتعرض للاستحالة والتناقض وما أشبهها؟ مع التذكير أيضاً بأن كل مسائل الفصاحة هي شطر من البلاغة.
فهذا هو المسوّغ الذي جعل الخفاجي يوزع قضايا اللفظ والمعنى هذا التوزيع، ونحسب أنه اجتهاد دفعته إليه رغبته في التفرد وتأكيد إدعائه السبق إلى ذلك، كما ذكر ذلك صريحاً في تعرضه لشروط الفصاحة في اللفظة المفردة(128)، علماً بأن أصح ما أورده في المسألة معروف وباقيه لا علاقة له بموضعه. ثم دفعه هذا الموقف إلى حشد كل مسائل الفصاحة والبلاغة والنقد تحت عنوان مقصود "سر الفصاحة"، إذ العنوان يخفي إشكالاً آخر ذلك أنه يفهم منه أن محتوى الكتاب في الفصاحة، وهي نفسها جزء من المتن.
ومع الإقرار أخيراً بأن أثر قدامة بن جعفر في مؤلف الخفاجي باد في مواضع شتى(129)، إلا أنّه تأثّر مسالك غيره أيضاً، فهو يستفيد من الآمدي في فهم قضية العلل والمدح بصفات الجمال والحسن فيخالف في ذلك قدامة. ويفيد من مباحث الجاحظ في الفصاحة، ثم إن أغلب ما أورده معروف في كتب البلاغة والنقد، وتداوله النقاد بعد قدامة، ومن هنا يكون البناء الذي أخضع لـه مادة كتابه متماشياً مع منطلقاته ودقائق أسسه، وإن كان الجزم باضطرابه وارداً إذا قابلناه بالمعهود من مباحث الفصاحة والبلاغة، إلا أنه يظل محكوماً بمنطق خفي ساد كل فصول الكتاب، وإذا كان بالإمكان قبول الرأي في "أنه أراد بناء كتاب على نسق "نقد الشعر" والإحاطة بكل القضايا التي تضمنها"(130)، فإننا نتحفظ إزاء وسم مؤلفه بخلل المنهج مطلقاً، فقد اعتمد شكلاً من أشكال التخطيط الذي خضعت له المادة في الكتاب، ولم يضطره تقليد قدامة والقسمة الثنائية التي بنى عليها الكتاب" إلى حشد المسائل التي كانت موزعة على أبواب عديدة (عند قدامة) في قسم الألفاظ المؤلفة بلا تمييز. فجعل المجانس والمطابق مع المساواة والإشارة، مثلاً، صفات للفظ، بينما هي عند قدامة إمّا من نعوت المعاني –المجانس والمطابق- وأما من نعوت ائتلاف اللفظ والمعنى –المساواة والإشارة-"(131)؛ والحق أنه ميز –كما رأينا- بين هذه المسائل، فنزّل المجانس والمطابق في قسم التناسب اللفظي والمعنوي من قسم الألفاظ المؤلفة الخاصة بالفصاحة، في حين عدّ المساواة والإشارة من مشترك الفصاحة والبلاغة، علماً بأن قدامة اعتبر هذه الأشياء كلها من نعوت ائتلاف اللفظ والمعنى، إلا إذا كان الباحث يقصد بالمطابق التكافؤ عند قدامة، وهو يعادل الطباق عند البلاغيين، علماً بأن قدامة استعمل المطابق يريد به الجناس المعروف(132).
وأخيراً يمكننا القول بأن مؤلف الخفاجي قد أملاه رأي في اللفظ والمعنى، وهذا الرأي لم يؤده إلى التعسف في بحث العلائق الرابطة بين العنصرين، بل يمكن اعتبار محاولته إقراراً بترابطهما وحضورهما معاً في القول البليغ، ورأيه في الأمر صريح، ويكفي للتدليل عليه قوله إن "المعاني وتأليف الألفاظ هي صناعة هذا الصانع التي أظهرها في الموضوع"(133).


(58) العسكر، الصناعتين: 12-13.
(59)  نفسه : 13-14.
(60) حمادي صمود، التفكير البلاغي: 437.
(61) العسكري، الصناعتين: 14.
(62) نفسه.
(63) نفسه: 16.
(64) نفسه: 114-15.
(65) نفسه: 18.
(66) حمادي صمود، التفكير البلاغي: 438.
(67) العسكري، الصناعتين: 16.
(68) نفسه: 63-64. ولقد تأثر بهذه المقولة أغلب النقاد، فممن لم نخصهم بالبحث مثلاً: الأصفهاني: الواضح في مشكلات شعر المتنبي: 51-52. ابن الأثير، المثل السائر: 123-124.
(69)  نفسه: 64.
(70) A. TRABULSI, la Critique poétique des Arabes, p.125.
(71) العسكري، الصناعتين: 65.
(72) نفسه. وكذا: 73.
(73) نفسه: 66.
(74) نفسه:  75.
(75) شكري عياد، كتاب أرسطو طاليس في الشعر: 239.
(76) غرنباوم، دراسات في الأدب العربي: 104.
(77) العسكري، الصناعتين: 75-76.
(78)  العسكري، ديوان المعاني 1: 330.
(79) نفسه: 345.
(80) العسكري، الصناعتين: 10.
(81) نفسه: 134.
(82) العسكري، ديوان المعاني 2: 87.
(83) نفسه: 87.
(84) العسكري، الصناعتين: 139. وكذا: 145. ولقد تأثر نقاد كثيرون بهذا التحليل. ينظر: الصاحب بن عباد الكشف، عن مساوئ المتنبي: 229. الحاتمي، الرسالة الموضحة: 42. أبو طاهر البغدادي، قانون البلاغة: 149-150. أسامة بن منقذ، البديع: 295-296. ابن أبي الإصبع، تحرير التعبير: 412-416.
(85) نفسه: 202. ويمكن التدليل على تفرعات رأيه في اللفظ والمعنى بتتبع ما أورده في التشبيه والاستعارة والإشارة ثم الإرداف والتوابع فالمضاعفة، وقبل ذلك شرحه صحيفة الهند وغيرها: 25... 249.. 374... 441.. وإن كان أغلب ما يورده من ابتكارات السابقين.
(86) نفسه:61.
(87) نفسه: 7.
(88) نفسه: 66.
(89) نفسه: 147.
(90) نفسه: 147-148.
(91) نفسه: 169.
(92) نفسه: 167.
(93) نفسه: شكري عياد، كتاب أرسطو طاليس في الشعر: 271.
(94) العسكري، الصناعتين: 167. وكذا: 157.
(95) ينظر: عبد المتعال الصعيدي، مقدمة التحقيق، سر الفصاحة: ز-حـ-ط. حمادي صمود، التفكير البلاغي: 441...
(96) ابن سنان، سر الفصاحة: 276.
(97) نفسه: 83-84.
(98) نفسه: 84.
(99) نفسه.
(100) نفسه: 85.
(101) نفسه.
(102) نفسه: 54... 82.
(103) حمادي صمود، التفكير البلاغي: 444. ينظر: شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ: 326-327. ابن الأثير، المثل السائر 1: 261-266.
(104) ابن سنان، سر الفصاحة: 87.
(105) نفسه: 97-1000.
(106) نفسه: 99.
(107) نفسه: 67.
(108) نفسه: 100. في حين يرى حمادي صمود أن ابن سنان باشر هذه الشروط مباشرة تفصيلية باستثناء هذا الأصل، مما أدى في نظره إلى جعل الإلمام بتخطيط الكتاب غير ميسور. التفكير البلاغي: 453. وهذا من المسائل التي اختلفت فيها وجهة نظرنا مع رأيه، ونراها من الأسباب التي جعلته يحكم على الكتاب بالتداخل واضطراب المادة.
(109) نفسه: 101... 158.
(110) نفسه: 162.
(111) نفسه: 162... 191.
(112) نفسه: 155.
(113) نفسه: 197-223.
(114) نفسه: 225.
(115) نفسه: 226.
(116) نفسه: 225... 280.
(117) نفسه: 49-50.
(118) نفسه: 197.
(119) نفسه: 3.
(120) نفسه: 225.
(121) نفسه.
(122) نفسه: 50-51.
(123) حمادي صمود، التفكير البلاغي: 454.
(124) نفسه.
(125) ابن سنان، سر الفصاحة: 84.
(126) نفسه: 206.
(127) حمادي صمود، التفكير البلاغي: 456.
(128) ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة: 83.
(129) ينظر: حمادي صمود، التفكير البلاغي: 458.
(130) نفسه: 459.
(131) نفسه: 459-460.
(132) ينظر: قدامة بن جعفر، نقد الشعر: 147-162.

(133) ابن سنان، سر الفصاحة: 84.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشـأة  الشــروح:
عندما نحاول حصر نشأة الشروح الشعرية بالمغرب ـ بمعناها التصنيفي ـ نستطيع أن نرجعها إلى أواخر العصر الموحدي وأوائل العصر المريني، انطلاقا مما استطعنا الوقوف عليه من إشارات أو عناوين مبثوثة في مظان مختلفة، إذ تطالعنا في هذه الحقبة شروح نجدها مرتبطة إذ ذاك لأحد اتجاهين اثنين
أحدهما: الاتجاه الذي يرمي إلى خدمة الدين الإسلامي، وذلك عن طريق الوقوف على متون فقهية أو صوفية أو مـا إليها مما يدخل في المجال الديني، والتعامل معها تعاملا يفضي إلى بلورة القيم الإسلاميـة التي يسعف بها المـتن المشروح، وإبراز النفحات الصوفية التي يعكسها ويحـويها، مثال ذلك :
اللآلي الفريدة  في شرح القصيدة» لحمد بن الحسين الفاسي( ت : 656 هـ ) وهو شرح على القصيدة الشاطبية المشهورة في القراءات والتجويد ( 1)
فرائد المعاني في شرح حرز الأماني ووجه التهاني» لمحمد بن محمد ابن داوود الصنهاجي المعـروف بابن آجـروم ( ت: 723هـ )، وهـو شرح على قصيدة أبي القاسـم الشاطبي في القراءات كذلك( 3).
وثانيهما: الاتجاه الذي يرمي إلى خدمة اللغة العربية، وتمكين الإنسان المغربي منها، باعتبارها لغة القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، ونذكر من نماذج ذلك: «شرح أبيات سيبويه» لأبي زكريا يحيى الزواوي( 4) (ت : 628هـ ).
ويبدو هذان الاتجاهان معا مستقيين من مجموعة عوامل، سواء منها ما كان داخليا أو ما كان خارجيا، تظافرت فيما بينهما ولا شك، لتخلق هذا النهج الجديد إذ ذاك في التعامل مع الشعر، والربط بينه وبين الإسلام واللسان العربي الذي جاء به. وقد نكتفي من هذه العوامل بالإشارة إلى:
أ ـ التوجه الذي عرفته عملية الشروح الشعرية في القرنيين الأولين للإسلام بالمشرق، ذلكم التوجه الذي كانت فيه عملية الشروح وجها من وجوه البحث العلمي الذي تنوعت أضربه خدمة للنص القرآني، وكذلك اللغة العربية.
ولا شك أن الاتصال الذي كان قائما بين المشرق والمغرب قد كان سببا في تأثر المغاربة بشراح المشرق، ومحاولتهم السير في ركابهم، خاصة وأن بعض شروحهم الشعرية كانت من بين الكتب المتداولة في حلقات الدرس بالمغرب، والمصنفات التي يقرأها التلامذة عن شيوخهم فيها،  المختلفة.
ب ـ الممارسة الأندلسية في مجال الشروح، خاصة وأن الوحدة بين المغرب والأندلس منذ العهد المرابطي إلى العهد المريني، قد أتاحت تمازج الاهتمامات العلمية والأدبية بين المنطقتين، كما أتاحت فرص التلاقح والتأثر بين علمائهما وأدبائهما، وفي مستويات متعددة، من بينهما مستوى الشرح، سواء كان المتن المشروح شعرا أو نثرا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق