قصة قصيرة


سعيد


لأنه امتهن الفرح يوم ولد، اختفى... قالت سيدة:
ـ أكاد لا أصدق ما حدث، منذ قليل كان هنا، يرقص، يفرح، استدرت إلى جهة أخرى ثم لا أحد يقض مضجع الألم الرابض في النفوس، عاد الجميع يتحسسون ألمهم.
رجل ثعلبي الوجه تنفس الصعداء، وأثنى على صاحب الوجه الملتحي ذي النظارة القاتمة، إذ قال: الحمد لله، أخيراً تخلصنا من السعدان الذي كان يفرح ويرقص.
ثم عاد يحصي الأرقام التي سيحصل عليها إن تمت الصفقة التالية، كان اللعاب يتطاير رذاذاً من بين ما تبقى لـه من أسنان، مسح وجهه، وعادا يملآن فضاءهما بأدخنة السجائر، وأبخرة السوائل الساخنة.
فتاة مع فتى، في ركن قصي، أعلنت تأففها من ذاك الذي قطع حديث فتاها، عندما كان يقسم لها أنه....،

ـ وماذا بعد؟
لم يجب، سرقه منها الراقص الذي يفرح وسط الحلبة، وعندما جُرّ من قبل الرجل الذي استطالت لحيته على حساب رأسه سألت الفتاة فتاها أن يكمل ما كان يريد قوله.
ـ لا شيء .... لا شيء.
فهل منع الراقص كذبة كانت ستقع؟
اختلف المسافرون بما يخص الوقت الذي مر على وجودهم في هذه الاستراحة، بعضهم قال: أعوام، وربما شهور، أو أيام، وقلة منهم دخلوا لتوهم، أياً كان الزمن، فالحافلة في الخارج تنتظر أن يأتي موعد رحيلهم، وحتى ذلك الوقت هم يتحدثون، يشربون، يأكلون، يفعلون كل شيء عدا الفرح، هل امتهنوا الشقاء؟ أم هو الفرح طائر لا تطيب لـه الإقامة بين الخافقين؟ ربما!
لكن سعيداً يمارس فرحه، يضحك حد الصهيل، هو على مقعده يراقب الآخرين، وجسده هو الآخر يفرح ويتراقص كأقحوانة أدركها ربيع مبكر، ربيع كان لأجلها، يلثمها فتموج نشوانة كما يطيب لها.


هو وحيد لم يدفئ يده كأس، ولا أثمل رأسه دن، ولم تلثم شفاهه وجبة سريعة، ولا ماجت في فضائه أدخنة ألم واشتهاء، لا وقت لديه إلا للفرح.
أنا ورفيقي كالآخرين نشتكي، هو يتشهى صدري متكأ، وأنا أتشهى كتفه وسادة، أنا أشكو قيوداً تشلني، وهو يشكو متاعب تضنيه، وخيبات تحبطه، وسعيد وحده يجلس في ركن مهمل، لا يصل إليه نادل، تفصله عن الجدار مكتبة صغيرة يقصدها المسافرون للتزود بمجلات تزين مجلداتها صور نساء عاريات، وبعضهم يخرج منها بكتب مغبرة، وكلما عبره أحدهم، فتح يديه على مصراعيهما، وتمتم بعبارات غير مفهومة، قهقه، هز رأسه، لكن العابر يرمقه بنظرة عجلى، يتجاهله وقد تغير لونه، هذا كله لن يغير سعيداً، فهو يتابع فرحه، وعيناه مصوبتان على العابر، بماذا كان يتمتم سعيد؟ لم يجرؤ أحد على التوقف ليسأل، فصاحب المكتبة يرسل إيماءات مفادها أن جاره مجنون.
ارتعش مسافر في إيابه من قهقهة سعيد، توقف، نظر إليه، فكر أن يضربه، أو يلقي به خارجاً، نظر إلى المسافرين، قال في سره: لماذا التورط؟ ليقم غيري بهذه المهمة، لكن سعيداً يضحك، ويشير بيديه إلى الكتب التي يحملها المسافر العابر، واستمر الحال على هذا المنوال، مسافرون يأكلون، يشربون، يتألمون، وسعيد يفرح، يصفق، يقهقه، يتحدث إلى نفسه، يتمايل كما يطيب له، وموسيقى كأبخرة الاشتهاء، وأنفاس الألم تموج في الفضاء الصغير، تنسكب ألحاناً تكرر نفسها.
فجأة اقتحم الاستراحة لحن راقص، اتجهت الرؤوس إلى مكبر الصوت، ثم عادت إلى اتجاهاتها، وسعيد قهقه، انتفض، تخلص من سترته، رماها على مقعده، تقدم حتى توسط الاستراحة، وراح يهتز مع اللحن الراقص، والوجوه تراقب اهتزازاته، بعضهم قال: إنه يبكي، يتألم، وآخرون قالوا: لا إنه يمارس فرحه في أوجه، وقلة أكدوا: إنها الرقصة الأخيرة. ورغم اختلاف الآراء، فإن سعيداً كان على توحد مع الفرح، وكثر أولئك الذين يصفقون له، ووحدي وقد سرت في جسدي نشوة الفرح، قررت أن أكون رفيقة سعيد في المرقص، ألقيت سترتي في حضن جليسي، واتجهت إلى هدفي، لكن المسافة التي قدرتها بخطوات، استغرقت ساعات كنت على امتدادها راقصة أكثر مني عابرة، تساءلت: كيف استطاع الوصول بلحظات وأنا...
حين وصلت توقفت على طرف اتساع المرقص، نظرت... لا أحد، هل أبعد الراقص؟ سألت: إلى أين؟ لا أحد يجيب، الجميع يأكلون، يشربون، يتألمون، يتحدثون، عن كل شيء إلا سعيد.
عدت إلى رفيقي، جلست، وبدلاً من أن يواسيني، كان علي الاستماع إلى شكواه، سألني: كيف السبيل للفوز بالمناقصة؟ ثم راح يحدثني عن حياته التي ستتغير إن رست المناقصة عليه. لم أجبه، بل فضلت الإنصات إلى قهقهة سعيد التي كانت تأتي من إحدى الغرف الملحقة بالاستراحة.


ÞÞÞ

دوامة

كانت الأصوات كثيرة، لكن صوت سهيل وهدان أسكتها جميعاً، حين بدأ يتحدث عن اللقاء الذي شاهده ليلة أمس على شاشة التلفزيون المتعلق بخبر تناقلته وسائل الإعلام، على لسان المسؤولين، والخبر يقول: إن لحم الدجاج هو أفضل غذاء للبشر، وذكر المسؤولون أن علماء الآثار عثروا أثناء التنقيب على عظام الدجاج، وحين نوهت المذيعة إلى احتمال أن تكون هذه العظام من بقايا دجاجات تناولها المنقبون، أو احتمال أن تكون أبناء آوى أو ما شابهها قد فضلت تناول وجبتها بين الآثار، عندها أخرج المسؤول عظمة وفتتها أمام المشاهدين ليثبت أن هذه العظام تعود إلى خمسة آلاف عام قبل الميلاد، هذا، وسمع الجميع صوت سهيل وهو يقول إنه ذهب إلى طبيب يسأله عن صحة ما تناقلته وسائل الإعلام، فأكد الطبيب ذلك وأضاف قائلا: اللحم الأبيض لطيف على الأمعاء، خفيف على الكليتين رهيف على القلب.
ما سمعه الآخرون زاد من تدافعهم للوصول إلى الموظفين اللذين يفصلهما عن الرتل الطويل حاجز زجاجي، ولولاه لدخل من استطاع ودفع رشوة لينهي معاملته ويبدأ بتنفيذ مشروعه، لكن والحق يقال، فالموظفان منهمكان في عملهما، لدرجة لا يجدان وقتاً للرد على الهاتف الأبيض، لكنهما يتسابقان للرد على الهاتف الأحمر:
ـ نعم، يا سيادة المحافظ، الأمور تسير على ما يرام.
ـ .....
ـ حاضر....
يسيطر الهدوء على الرتل الذي يتوسطه سهيل وهدان، وكذلك إضبارته أمامها العشرات ووراءها العشرات، بعضها يعلو على الرؤوس ليمنع الحرارة الشديدة، أو أمام العينين ليتمكنوا من رؤية ما يحدث أمامهم ووراءهم.
يعود صوت وهدان سائلاً جاره:
ـ هل حضرت ندوة الأمس؟
ـ فاتني بعضها.
ـ هل سمعت؟
ـ ماذا؟
ـ المحافظ لا يتناول إلا لحم الدجاج.
ـ أعرف.
ـ ليس أي دجاج، حصراً الديكة.
ـ لماذا؟
ـ آه، لماذا؟ ألا تعرف؟ اقترب.
همس سهيل وهدان في أذن الرجل، ضحك الأخير وقال:
ـ الآن عرفت لماذا هي الديكة قليلة، أظنها تذهب إلى.....
ـ نعم، أمس بعد الندوة أطل المفتي العام وبدأ حديثه قائلاً: (يا معشر المسلمين لا تجعلوا بطونكم مقابر للحيوانات)، ثم ختم حديثه قائلاً: لحم الدجاج يكثر الباه. لولا الحديث الذي أدلى به المفتي العام لظلت زوجتي تعارض إقامة المشروع.
ـ هكذا هن النساء.
ـ صدقت، منذ عشرة أعوام أو أكثر، سمعت من أصدقائي أن وزير الاقتصاد أصدر قراراً يقضي بدفع رسوم مستحقة على الأجهزة أو الأشياء المهربة، وكعادتها عارضتني، أو بالأحرى اعترضت على قرار الوزير، وأقسمت أنها لن تدفع قرشاً واحداً، إذ قالت، تعال، اقترب....
بصراحة، خفت أن تظل على عنادها، فأتيتها بالحسنى، فاقتنعت وبدأت تحصي الأدوات المنزلية المهربة، السكاكين، ما استهلك منها وما ظل قيد الاستعمال، الملاعق، ما صدأ منها وما طمر، وما نزال نأكل به، الأقداح، الفناجين، الصحون ما كسر منها وما سلم، وتذكرت نبيهة أن مروحة أهدتها لها فضيلة، قريبة المحافظ، لا تعرف سعرها، وحين ذهبت لأسألها قالت أنها لم تعد تذكر، وكان عليّ حمل المروحة المهترئة إلى تاجر ليقدر ثمنها، صدقني، أنا مازلت عاجزاً عن تقدير السعادة التي شعرت بها حين دفعت تلك الرسوم، على الأقل زال شيء من الخوف الذي كان سيقتلني إن عاجلاً أم آجلاً، هكذا هي نبيهة، أحياناً تكون نبيهة، وأحياناً حمقاء، لو تركتني أحصل على الرخصة وأنفذ المشروع لكنا أصبحنا من الأثرياء.
ـ هذا صحيح، أنا كنت محاسباً في شركة حكومية، وبالأرقام تبين لي أن فوج دجاج يدر ما يساوي دخلي السنوي.
بعد أيام أطلت المذيعة مع السيد وزير الصحة في ندوة، بدأتها بسؤال:
ـ حضرتكم، وزير الصحة منذ أكثر من عشرة أعوام، ما رأيكم بما أشيع عن أمراض يسببها لحم الدجاج؟
رفع الوزير رأسه وقال:
ـ في الحقيقة ليس ما ذكرت إشاعة، إنها حقيقة، حين وصلت إلينا تقارير عن مواد هرمونية تضاف إلى علف الدجاج، استنفرت وزارتنا وقمنا باختبارات طبية أكدت صحة التقارير، هذا وقد أو عزنا إلى الجهات الأمنية والفرق الطبية لمعالجة الأمر.
ـ ما هي الكلمة الأخيرة التي تحب أن توجهها إلى السادة المشاهدين؟
ـ الحذر، فالإنسان هو أغلى ما في الوجود، وخاصة إنساننا العربي.
ـ عفواً سيادة الوزير، الدجاج وجبة رئيسية، فماذا تنصح الموطنين استبداله؟
ـ المحار، الأسماك، الفري، اللحوم الحمراء، لحم البقر، لحم التيس رخيص ومعقول.
لو لم تخفف نبيهة من قوة الصدمة التي تناولها زوجها، لأصابته سكتة دماغية إذ قالت: وماذا في الأمر؟ حول المدجنة إلى مسمكة.
أعجبت الفكرة سهيلاً، وراح يبحث عن الشروط الجديدة لتحويل المدجنة إلى مسمكة، وأعجب بذكاء زوجته، وقال في سره: حتى لو قالوا أن الأسماك والمحار تتغذى على الهرمون، فإن اللؤلؤ يكفي لقلب حياته رأساً على عقب.
وزاد في تفاؤله، صوت المذيعة التي تهمها صحة المواطن، فأجرت حواراً حذر فيه الوزير من تناول لحم البقر، وختم اللقاء قائلاً: ما يهمنا هو عقل الإنسان، خاصة عقل الإنسان العربي.
تنفس سهيل وهدان الصعداء، وأثنى على ذكاء زوجته، وبدأ يحصي أرباح المسمكة، وكان سيأتي على حساب أرباح اللؤلؤ والمحار، لولا أنه رأى خبراً بالخط العريض: (التلوث يحول الأسماك إلى سم زعاف).
اللعنة، قال سهيل، وابتسم حين تذكر المحار واللؤلؤ!. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق